Monday, April 26, 2010

فتاة المدينة و فتى الريف

سافرنا ذات مرة في الصيف إلى بلاد الشام هربا من حرارة الجو
في بلادنا ..
و عمدنا إلى زيارة الأرياف و التجول في الأزقة و الأسواق القديمة في
مدينة دمشق العريقة ..
في بلاد الشام و خصوصا في هذا الوقت من السنة
تشاهد ما لذ و طاب من الفواكه في كل مكان..
فتجد بائعي التين و الخوخ المتجولون.. يجلسون في أرصفة الطرق و سلال بضائعهم تفرش الأرض..
تسمع صوتهم ينادون لتذوق فاكهتهم اللذيذة ..
و بائعي البطيخ.. ذلك البطيخ الحلو اللذيذ الذي لم أذق مثله أبدا في حياتي..
كانت عربات البطيخ تصطف طوال الطريق الريفي المؤدي إلى المزارع ..
تجد ثمارها الخضراء تلمع تحت أشعة الشمس الصيفية و كأنها تدعوك إلى إرواء عطشك
برشفة من هذه الثمار الباردة المنعشة ..




كنت أراقب بائعي الفواكه في الطريق من خلف زجاج نافذة السيارة..
كان الطريق الرملي يتسع تارة ثم يضيق تارة أخرى
تجد المزارع حولك ثم فجأة تختفي لتقف السيارة في مفترق طريق ثلاثي يؤدي إلى الأرياف ..
كانت الشمس تختفي خلف غصون الأشجار المتشابكة التي تشكل سقفا أخضر يظلل الطريق الرملي..
استيقظت من سرحاني عندما توقفت السيارة عند أحد المزارع التي تقبع في قلب الريف..
و أخيرا بعد أن أمضينا ساعتين نسير إلى وجهتنا..
أخيرا وصلنا إلى المزرعة التي سنقضي فيها بقية يومنا لنستمتع بالهواء الريفي النظيف
و نتناول غداؤنا هناك..



استقبلتنا عجوز طاعنة السن ..
كان وجهها كالخوخ المجفف ملئ بالتجاعيد و بآثار الزمن التي رسمت على خديها صفعاته ..
ابتسمت إلينا كاشفة عن فراغ اسود بين أسنانها و سمعتها تتحدث بتلك اللكنة الدمشقية الهادئة ..
و استقبلتنا خير استقبال ثم اجتزنا بوابة المزرعة لنجلس هناك بين الأشجار المتعرشة ..

أخذت أنظر إلى المكان الهادئ .. فقد التفت حول المزرعة جدران حجرية..
و هناك بين الأشجار رأيت ذلك البيت الريفي البسيط الذي يختبأ بين أشجار الخوخ و الأجاص ..
و في الجهة الغربية كانت هناك بركة واسعة تتوسطها نافورة ماء ..
كان الماء يتدفق بشكل مستقيم في الهواء فتتطاير ذراته لتنعش الهواء البارد
و ترسم حولها قوس قزح صغير يتلئئ على أشعة الشمس الذهبية ..











سمعت صوت أمي تناديني ..

التفت نحوها فإذا هي جالسة مع أبي على بساط أزرق اللون بين الأشجار الوارفة

وقد جلبت لهما العجوز إبريق الشاي الذي تصاعدت الأبخرة من فوهته..
لكنني فضلت أن أسير بين الأشجار قليلا لأرفه عن نفسي
طفقت أسير ..

أتوغل بين أشجار الخوخ عبر الطريق الطيني الذي يتسلل بين جذوعها

مستمتعة بمنظر الفاكهة اليانعة التي تدلت بزهو على الغصون ..

كانت شديدة الحمرة و كأنها تدعوني إلى قطفها فوقفت عند أحد الأشجار

ثم أنني مددت يدي لأقطف إحدى الثمار القريبة حتى اتكأت على جذع الشجرة..

مسحت الثمرة الحمراء لأبعد عنها ذرات الغبار و تذوقتها فكانت أجمل خوخة تذوقتها طوال حياتي ..

حلوة المذاق لدرجة لا توصف





و بينما أنا كذلك سمعت صوتا يأتي من الناحية الأخرى فالتفت إلى الوراء ..
"أهلا"
قالها ذلك الشاب الذي يقف ورائي ..

و لوهلة قفزت خوفا عندما شاهدته يقف خلفي.. لقد فاجئني ..
و لما رآني قد جزعت ابتسم إلي و قال بنبرة هادئة بلكنته الدمشقية الجميلة :
" آسف لقد أخفتك"
" لقد تفائجت فقط ليس إلا "
قلتها و آنا اسحب الهواء بقوة إلى رئتاي محاولة تهدئة نفسي فضحك ذلك الشاب ..
نظرت إليه ..



كان وجهه تشوبه مسحة برونزية تميل إلى الاحمرار من أثر الشمس ..

خصلات شعره البنية الفاتحة قد التصقت على جبينه المتعرق ..

شاهدته يحاول إبعادها عن عينيه بسرعة عندنا رآني ..

عينيه كانتا رماديتان تلمعان ..

و تلك اللحية الشقراء الخفيفة قد رسمت وسامة لا توصف على وجنتيه.
كان يبتسم إلي ابتسامة جذابة و هو يمسك بيديه معولا لطخه الطين حتى مقبضه ..

و لما شاهدني انظر إلى المعول أسنده إلى جذع الشجرة ثم نفض التراب من يديه

و ساعديه المفتولين ..
لوهلة شعرت بالخجل فابتسمت و قد أبعدت نظري عنه و قلت في نفسي قد يذهب الآن

و يدعني و شأني..
لكنه لم يفعل ذلك .. ظل ينظر إلي مبتسما ثم سمعته يقول بصوته الهادئ :
“أيعجبك المكان هنا ؟ "
صمت .. لا أدري ما أقول ..

كنت أريد أن آكل ما تبقى من الخوخة التي ما أزال امسكها بين يداي

لكنني خجلت من ذلك فأجبته بتردد :
“نعم ... المكان هادئ هنا .."
“كيف هو الريف ؟"
انه ما يزال يلقي بوجهي الأسئلة.. ماذا سأقول ..

" الريف ؟ انه المكان الوحيد الذي أتمنى الجلوس فيه طوال حياتي ..

فالجو صافي عليل و السماء زرقاء واسعة و الهواء منعش نظيف ..

انك ترى الأشجار في كل مكان تدعوك إلى مشاركتها عالمها السحري ..

عالم الطبيعة الأخضر الهادئ ..

انه المكان الوحيد الذي تستطيع به الابتعاد عن صخب الحياة المدنية و الروتين المضني "


و كأنه لم يتوقع تلك الإجابة المسترسلة مني ..

فأطبق الصمت فكيه عدة لحظات و لم أسمع شيئا سوى صوت حفيف الأشجار المورقة

و ألحان الطيور الصداحة تعزف لحنا شاعريا فوق الأغصان ..

" معك حق .. فالحياة هادئة جميلة هنا ..

شديدة الهدوء لدرجة بأنك قد تشعرين بأنك منقطعة عن عالم الحضارة و التقدم

و كأنك تعيشين في القرون الوسطى القديمة ليس في قرننا الواحد و العشرون ..

لكن مع كل ذلك لن تجدي هنا سوى الابتسامة على وجوه الجميع و ضحكات الأطفال في كل مكان ..

حياتنا بسيطة نعم لكننا ننعم بالراحة و الهدوء "

قالها و قد اقترب عدة خطوات مني فاضطربت و بحركة شديدة البطء تراجعت إلى الوراء

فأنا لا أعرف هذا الشاب و لما رأى ردة فعلي التي حاولت إخفاؤها ضحك بصوته العالي و قال :
" لا تشعري بالقلق .. فأنت هنا بأمان .. كلي ما تبقى من الثمرة "



قال الكلمة الأخيرة و هو ينظر إلى يدي

فتراقصت ابتسامة خجل على وجهي و بسرعة أكلت ما تبقى منها ..

ثم شاهدته يتسلق جذع الشجرة و يمد يده إلى غصن عالي ليقطف ثمرة حمراء كبيرة جميلة

حتى نزل إلى الأرض بقفزة واحده فقدمها إلي و ابتسامة واسعة ارتسمت على محياه :
" خذيها إنها هدية مني "
و ساد الصمت بيننا لحظات أخر ..
ثم سألني و هو يراقبني كيف قضمت قضمة سريعة من الثمرة :
" كيف هي حياتك في عالمك ؟ "
نظرت إليه .. وقفت أفكر .. لا أعلم ما أقول .. لكنني استرسلت بالحديث :
" ليس مثل هنا في الريف .. فالمكان الذي جئت منه يعج بالصخب .. بالتوتر و الضيق .. "
" كيف ذلك ؟؟؟؟!!"
" إنهم البشر .. إنهم هم من صنع ذلك الجو الكئيب في بلادنا ..

نعم نحن لدينا الأسواق الحديثة و الطرق السريعة و السيارات التي لن تشاهد مثلها إلا نادرا في بلادكم ..

نعم نحن نملك كل شيء لكنك تشعر بأن كل شيء ليس على ما يرام ..
فأنت عندما تخرج في الصباح الباكر متفائلا سعيدا تجد بأن من حولك قد أنهكته الكئابة ..

إنها تلك الكئابة الجماعية و الغضب المسيطر على المجتمع ..

انه ينعكس على طريقة تعامل البشر مع بعضهم البعض ..

فأنت عندما تسوق سيارتك في الصباح تجد الكل غاضبا.. يسوق بسرعة مجنونة ..

فهذا يشتم ذاك .. و أحدهم يحاول أن يتجاوز الآخر..

و الآخر يحاول أن يرهب الجميع بحركاته المجنونة في الطريق ..

إنني أنظر إلى هذه المعركة الصباحية المخبولة في كل يوم و أنا اتسائل لكم كل ذلك ؟؟

لماذا الجميع هكذا يكرهون بعضهم البعض ؟ "


غريبة .. إنكم تملكون كل شيء فلماذا الناس هكذا في بلادكم ؟؟؟"
" انه التكبر .. العنجهية و حب التظاهر ..

انه الروتين و الحياة الكئيبة .. انه الملل .. تجد الكل يتحدث و يقول بأن العمل كثير و الراتب قليل

لكنك عندما تشاهد الواقع تجده بأنه يرفض العمل و يظل طوال اليوم جالسا في مكتبه

يتذمر بأنه تعب من هذه الحياة و يريد إجازة ..

ترى البعض يتهربون من أعمالهم و البعض الآخر لا يريد العمل

و في نفس الوقت يطالبون بزيادة الرواتب و الحصول على معاشات عالية تكفيهم لحياة كريمة..

إنهم لا يعملون و بالمقابل يريدون الحياة الكريمة .

انه يرفضون العطاء و يرحبون بالأخذ .. يريدون العيش في قصور فاخرة كالأغنياء

و هم يعلمون بأنهم لا يستطيعون لكنه المجتمع فرض عليهم هذه العقلية.. حب التظاهر و السطحية .. "



صمت عندما رأيت الحيرة ترتسم على محيا الشاب الريفي البسيط

و كأنه لم يفهم كلمة مما قلت.. لكنه قال في النهاية بعد لحظة صمت طويلة :
“تبدوا بأن حياتكم كئيبة .. لماذا يريدون العيش في قصور فاخرة كالملوك و هم لا يستطيعون ؟؟

إنني لا أفهم ! لماذا لا يريدون العيش ببساطة مثلنا .."
و لم أجبه على سؤاله إنما أكلت ما تبقى من الثمرة التي أعطاني إياها ثم قال :
" و كأنك تريدين الهروب من عالمك ذاك أليس كذلك ؟

أتفضلين العيش في الريف على العيش هناك ؟"
ابتسمت إليه ثم قلت :
" حياتكم هادئة هنا .. الجميع يشعر بالسعادة و مقتنع بما عنده ..

إنني افتقد إلى الهواء المنعش و الخضرة اليانعة التي لا أشاهدها إلا نادرا في بلادنا ..

إنني أتمنى الجلوس هناك عند النافورة تحت أشجار الخوخ و الأجاص و أتأمل زرقة السماء طوال اليوم

على أن اجلس في أحد المقاهي في أرقى الأسواق في بلادي "

جلست استند إلى جذع الشجرة و رأيته يجلس إلى جانبي و كأنه استمتع لحديثي هذا..
ثم استطردت قائلة :
" إنني أكون في قمة السعادة عندما يمسي القمر بدرا في بلادي ..
فأنا أحب رؤية نوره الفضي الأزرق في الليالي المقمرة ..
فأظل طول الليل ساهرة أنظر إلى قرص القمر المشع اسرح به لأهرب من عالم الواقع إلى أرض الأحلام.."
سمعته يضحك بصوته العالي ثم أجابني :

" إذا عليك الجلوس هنا في الليل تحت جذوع الأشجار
لتشعري بنسيم الليل العليل و تراقبي صفحة السماء التي تزينها ألف ألف نجمة
تتلئلئ و كأنها جواهر تتدلى من طبق السماء المخملي الأسود .."

“يبدوا بأنك تحب الجلوس كثيرا في الحقول ؟ "
" انه المكان الوحيد الذي يريحني بعد عمل يوم كامل متعب ..
أتمدد هنا تحت الأشجار و احتسي قدحا من الشاي ..
و أحيانا كثيرة أغفو لأصحو في الصباح و كثيرا ما أستيقظ لأشاهد أمامي الفطور
المكون من خبز و مربى و جبنا طازجا
فأمي تعلم جيدا بأنني إذا لم اعد إلى المنزل في الليل أكون قد غفوت تحت أشجار الخوخ
فتأتي في الصباح و تضع إلى جانبي الفطور "

كم أحسده .. أتمنى لو استطيع العيش بهدوء مثله بالضبط ..

صمتنا بعد حديث طويل ..
و ظل طوال الوقت ينظر إلي ..
و تمنيت لو انه يذهب لأعود إلى لحظات تأملي هذه ..
ثم سمعته يقول بصوته القوي و الهادئ في نفس الوقت :
" لو تقدمت إليك و طلبت منك الزواج .. هل تستطيعين العيش هنا معي ؟ "
قالها بنبرة واثقة ففتحت عيناي عن آخرهما أنظر إليه ..
يالجرأته !!! أتراه يستهزأ ؟! أم ماذا ؟
كيف لفتى ريفي بسيط أن يتقدم إلى فتاة مثلي قد أتت من عالم مختلف..
فنحن نعيش في عالمين مختلفين .. منفصلين..
هل حقا أستطيع العيش هنا ؟ بعيدا عن عالمي الذي أعيش فيه ؟
هل ستنسجم فتاة المدينة مع فتى الريف ؟
لوهلة.. تضاربت الأفكار في عقلي .. و لم أعد قادرة على التفكير ..
و ظل هو ينظر إلي نظرات جادة بعينيه الرماديتين الجميلتين ..
و لم أعطه جواب ..
أبدا لم أعطه جواب ..فأنا نفسي لا أعلم .. هل أستطيع فعلا العيش في عالمه ؟

No comments:

Post a Comment